الرزق بيد الله -تعالى- وحده
لو تتبَّعنا كلمة يَرزقكم في القرآن لوجَدنا أن الرزق بيد الله وحده؛ فقد قال - جل في علاه -: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 31].
هنا يَعترف بذلك المشركون بأن الرزق بيد الله وحده، ومن على الأرض يعلم أن الرزْق بيد الله الواحد.
وقال "سيد قطب" تعليقًا على هذه الآية: مِن المطر الذي يحيي الأرض ويُنبت الزرع، ومِن طعام الأرض نباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها، ثم سائر ما كانوا يَحصلون عليه من الأرض لهم ولأنعامهم، وذلك بطبيعة الحال ما كانوا يُدركونه حينذاك مِن رزق السماء والأرض، وهو أوسع مِن ذلك بكثير، وما يزال البشر يَكشِفون - كلما اهتدوا إلى نواميس الكون - عن رِزق بعد رزق في السماء والأرض، يَستخدمونه أحيانًا في الخير، ويستخدمونه أحيانًا في الشر حسبما تَسلم عقائدهم أو تعتلُّ، وكله مِن رزق الله المسخَّر للإنسان، فمِن سطح الأرض أرزاق، ومِن جوفها أرزاق، ومِن سطح الماء أرزاق، ومِن أعماقه أرزاق، ومِن أشعَّة الشمس أرزاق، ومِن ضوء القمر أرزاق، حتى عَفَن الأرض كُشف فيه عن دواء وترياق"
وقال - تعالى -: ﴿ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [النمل: 64]، "ولما كان إعادة الخلق محلَّ جدل، وكان إدماجها إيقاظًا وتذكيرًا أُعيدَ الاستِفهام في الجملة التي عُطفت عليه بقوله: ﴿ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾، ولأن الرزق مُقارِن لبدء الخَلق، فلو عُطف على إعادة الخَلق لتُوهِّم أنه يَرزق الخلْق بعد الإعادة فيَحسبوا أن رِزقهم في الدنيا مِن نِعَم آلهتهِم".
وهذا من إعجاز القرآن الكريم في الاستفهام في هذه الآية حتى يعلموا أن الرزق بيد الله وحده، وليس لآلهتِهم أدنى رِزق.
وقال - عز وجل - في سورة سبأ: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 24]، "يقول - تعالى ذكره - لنبيِّه محمد -صلى الله عليه وسلم-: قل - يا محمد - لهؤلاء المُشركين بربِّهم الأوثانَ والأصنامَ: مَن يرزقكم مِن السموات والأرض؛ بإنزاله الغيثَ عليكم منها؛ حياةً لحروثكم، وصلاحًا لمعايشكم، وتَسخيره الشمس والقمر والنجوم لمنافِعكم، ومنافع أقواتكم، والأرض بإخراجه منها أقواتكم وأقوات أنعامِكم، وترَك الخبَر عن جواب القوم؛ استغناءً بدلالة الكلام عليه، ثم ذكَره، وهو: فإن قالوا: لا نَدري، فقل: الذي يَرزقكم ذلك الله، وإنا أو إياكم - أيها القوم - لعَلى هدًى أو في ضلال مبين، يقول: قل لهم: إنا لعلى هدًى أو في ضلال، أو إنكم على ضَلال أو هدًى"
وقال -تعالى-: ﴿ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ * أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الملك: 21، 22]؛ أي: يُعطيكم منافع الدنيا، وقيل المطر مِن آلهتِكم، ﴿ إِنْ أَمْسَكَ ﴾ - يعني الله تعالى - رِزقَه، ﴿ بَلْ لَجُّوا ﴾ أي: تمادَوا وأصرُّوا، ﴿ فِي عُتُوٍّ ﴾ طغيان ﴿ وَنُفُورٍ ﴾ عن الحق
في هذه الآية إقناع للمشركين بأن الرزق بيد الله - عز وجل.
وقال -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ [فاطر: 3]، وقال -تعالى-: ﴿ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ إشارةً إلى نعمة الإبقاء بالرزق إلى الانتهاء، ثم بيَّن أنه "لا إله إلا هو" نظرًا إلى عظمته؛ حيث هو عزيز حكيم قادر على كل شيء، قدير نافذ الإرادة في كل شيء، ولا مثل لهذا، ولا مَعبود لذاته غير هذا، ونظرًا إلى نعمته؛ حيث لا خالق غيره، ولا رازق إلا هو.
وقوله -تعالى-: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58]، قول - تعالى ذكره -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ﴾ خلْقَه، المتكفِّل بأقواتهم، ذو القوة المتين.
وقال الرازي في هذه الآية: "ثم قال - تعالى-: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾؛ تعليلاً لِما تقدَّم من الأمرَين؛ فقوله: "هو الرزاق" تعليلٌ لعدم طلب الرزق، وقوله -تعالى-: "ذُو القُوَّةِ" تعليل لعدم طلب العمل؛ لأن مَن يَطلب رزقًا يكون فقيرًا محتاجًا، ومَن يَطلب عملاً مِن غيره يكون عاجزًا لا قوة له